الثلاثاء، 26 يوليو 2011

امريكا ومناورة الافلاس

هل ستتخلف أمريكا عن سداد ديونها؟ .. سؤال دار وما زال يدور وسيدور في أدمغة الملايين من المستثمرين حول العالم ليس مرة واحدة بل آلاف المرات ولن يتوقف عن الدوران قبل أن تحسم أمريكا موقفها من هذه الديون إما بالاتفاق على رفع سقف الدين قبل الثاني من أغسطس القادم أو بإعلان عجزها عن السداد والدخول في حالة من “الإفلاس الفني” و ” انعدام الوزن الاقتصادي ” وارتفاع سقف المنافسة بين وكالات التصنيف الائتماني حول من سيخفض تصنيف أمريكا أكثر .
إن أي تخلف أمريكي عن سداد الديون سيكون بمثارة الكارثة للأسواق الأسيوية .. لماذا الأسواق الأسيوية دون غيرها؟.. لأن معظم الديون المستحقة على الولايات المتحدة الأمريكية والموجودة على شكل “سندات خزانة ” تعود لدول أسيوية على رأسها الصين بـ 1.4 تريليون دولار ، واليابان بـ 890 مليار دولار ثم السعودية بـ 800 مليار دولار – الرقم الحقيقي للاستثمار السعودي في سندات الخزانة الأمريكية متداول لكنه غير مؤكد بإحصاءات – ثم تأتي الهند كرابع دولة أسيوية دائنة لأمريكا بمبلغ يقدر بـ 180 مليار دولار ، وإذا افترضنا أن باقي الدول الأسيوية بما فيها دول الخليج العربي المصدرة للنفط كالكويت وقطر والإمارات وشركاتها وأغنياءها دائنة للولايات المتحدة بنحو 300 مليار دولار فقط فمعنى ذلك أن القارة الأسيوية دائنة للولايات المتحدة بنحو 3.5 تريليون دولار أي نحو ثلث مديونية الولايات المتحدة البالغة نحو 14.3 تريليون دولار، ولذلك قلنا أن الأسواق الأسيوية ستكون الأكثر تضررا من أي إخفاق لأمريكا في سداد ديونها.
مما لا شك فيه أن ما يجري في أمريكا حاليا من شد وجذب حول قضية رفع سقف الدين العام هو توظيف سياسي داخلي لأغراض الحزبين الجمهوري والديمقراطي لكني في الوقت نفسه لا أرى ما يمنع أن تكون “المسرحية ” مجرد “بالون اختبار ” الهدف منه قراءة “رد الفعل” الصيني والياباني على أي حالة إفلاس أمريكية حقيقية. وحتى هذه اللحظة لم نسمع أي تصريحات يابانية حول آثار التخلف عن السداد وما زال الموقف الصيني يدور في إطار التعبير عن القلق والتمنيات وأقصى ما ذهبت إليه الصين في هذا المجال هو قول أحد مستشاري البنك المركزي الصيني أن” فكرة تخلف أمريكا عن سداد ديونها هو لعب بالنار”.
قد تكون النوايا الأمريكية متجهة إلى رفع سقف الدين العام قبل الثاني من أغسطس لكن الموقف الصيني الياباني المتراخي جدا قد يدفع الرئيس الأمريكي بما له من صلاحيات “النقض” والحزبين المتمسكين بطموحاتهم السياسية للذهاب في لعبة عض الأصابع حتى النهاية واختبار حالة “الإفلاس الفني ” أي عدم الوصول إلى اتفاق في الثاني من أغسطس واستمرار النقاش القانوني حوله إلى ما بعد هذا التاريخ بأيام أو أسابيع وبالتالي إدخال العالم في أزمة لا يعرف أحد نتائجها المدمرة خاصة وأن الاقتصاد العالمي ما زال في حالة نقاهة من آثار الأزمة المالية العالمية وتداعياتها.
المثير للسخرية في قضية الديون الأمريكية أن العالم كله الآن – وعلى رأسه الصين واليابان والهند والسعودية وباقي دول الخليج – في “المستنقع″ نعم الجميع يسبح في “أعالي المحيط” والكل مهدد بالغرق فإن أفلست أمريكا سيفلس معها كثيرون ومن هذا المنطلق لا يريد أحد لأمريكا أن تفلس اليوم والجميع مستعد لانتظارها حتى تتجاوز حالة “الإفلاس الفني” بل ويمكن القول أن جميع المذكورين أعلاه مستعدون لشراء سندات الخزينة الأمريكية وإقراض أمريكا ما تشاء من مال مقابل أن لا تعلن إفلاسها الحقيقي وبهذا المعنى يمكننا أن نتفهم أسباب كل هذا التهاون والتراخي والصمت الصيني الياباني تجاه لعبة رفع سقف الدين العام الأمريكي.
إن أمريكا تلعب اليوم على عامل الوقت قبل أن تعلن إفلاسها الحقيقي الذي قد نراه قريبا أي خلال العقد الحالي أو العقد القادم أي أنها على “موعد مع الإفلاس″ اللهم إلا إذا تخلصت من عقدة القطب الواحد وتخلت عن طموحاتها الإمبراطورية واكتفت بالتقوقع على نفسها ضمن حدودها بالتزامن مع إتباع سياسات متقشفة تعيد الأمريكي إلى عصر الإنتاج والإنفاق لا عصر الاقتراض والإنفاق وهل الإنسان اليوناني أقل شأنا من الإنسان الأمريكي؟!.. ولماذا يفرض على الإنسان اليوناني التقشف والجوع ومديونية اليوناني لا تزيد عن 33300 دولار أي أقل بكثير من مديونية الأمريكي التي تزيد عن 46000 دولار .
لا أجد حرجا في القول أن ما يمارسه الجمهوريون من ضغوط لخفض الإنفاق العام هو نفاق سياسي بامتياز هدفه انتزاع الورقة الاقتصادية من يد الرئيس وتخفيض شعبيته إلى أدنى مستوياتها مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لكني في الوقت نفسه لا أجد مناصا من الاعتراف بأن ما يطلبه الجمهوريون هو حق يراد به باطل ومع ذلك وبغض النظر عن الغايات الحقيقية لهذه الضغوط فإنها برأي مشروعة لتحسين بيئة خدمة الدين العام الأمريكي وأعتقد جازما أن العالم كله – وخاصة الصين واليابان – مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بممارسة أشد أنواع الضغط على الولايات المتحدة لتقلص مديونيتها إلى الحدود المناسبة وإلا فإن العالم كله متجه نحو كارثة اقتصادية سيسجلها التاريخ على أنها الأولى من نوعها في تاريخ البشرية.
أمريكا ومناورة الإفلاس